واشوقاه لدمعة من خشية الله
عيناه كم سفحت سيولا من الدمع لمصاب ألم بي، وكم ذرفت دموعا فرحا بحدث سررت به.
لكن... متى عهدك بدمعة الخضوع والخشوع، دمعة تصفو بها النفس،ويقوى بها الإيمان، دمعة تكون السبب في الإستظلال تحت ظل الرحمن...دمعة الخشية لله !!!!!؟ .
عذرا يا عين ،فلعل المخاطب هنا هو القلب، فما أنت إلا مرآة تعكس ما يختلجه، ومعبرة عما يكتنفه .
لذا أوجه حديثي للقلب العابث اللاهي ، الغافل عن سر سعادته، قائلة له :
لقد اشتقت وزاد شوقي لأن أكون ممن قال فيهم ربي ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)سورة الإسراء الآية 109.
وأطمع أن أكون من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ،حيث ذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: \"ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه\"(1)
وآمل أن تحرم علي النار بدمعة أسكبها خشية لله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \"لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم\"(2)
واشوقاه لأن تحاكي عيني أعين السلف الصالح ،أم أن الأمر كما قال الشيخ العفاني :
محت بعدكم تلك العيون دموعها ** فهل من عيون بعدهم نستعيرها.(3)
رجاء يا قلب أفق، وأزل ما علق بك من شوائب، واطرد القسوة عنك،فأنت الملك، وهمة جنودك تعلو بعلو همتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \" ألا إن في الجسد مضغة ،إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب\"4.
عد إلى رشدك يا قلب ،وتذكر أن \" من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ،ألا إن سلعة الله غالية ،ألا إن سلعة الله الجنة\"5.
ولك علي أن أعينك لتستنير من جديد بنور المعرفة وصدق الإيمان،فتكون العين لك طائعة ولحالك كاشفة ،وهذا بعض ما أوصي به نفسي وأخواتي لتحقيق ذلك:
* الحرص على الطاعات والبعد عن المعاصي: قال تعالى( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)سورة الشورى الآية 30.
فهذا كرز بن وبرة يدخل عليه بعض الناس وهو يبكي فيقول له: أتاك نعي بعض أهلك؟ فيقول: أشد، فيقول له : وجع يؤلمك؟ فيقول: أشد،فيقول له: وما ذاك؟ فيجيبه : بابي مغلق ،وستري مسبل ،ولم أقرأ حزبي البارحة،وما ذاك إلا بذنب أحدثته\"(6)
* الإكثار من الذكر والدعاء: فحقيقة القلب أنه مخلوق عابد لله (يسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)سورة الإسراء الآية 44 ،فمتى حاد القلب عن الحق واتبع الباطل اضطرب، وإن سمع الذكر عاد إلى فطرته واطمأن قال تعالى (الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) سورة الرعد الآية 28
وللوصول إلى درجة الإطمئنان لابد من الإستعانة بالدعاء،هذا الأخير الذي يمثل قمة العبودية والخضوع،لما يتخلله من الحمد والثناء، وإحساس العبد بافتقاره لمولاه، وشعوره بقربه،لذا لا يكون من العين حينها إلا أن تذرف دموعا فرحا بتشرف النفس بالقرب من ربها،وشوقا لرؤية باريها.
* استحضار الذهن عند الصلاة:
ذلك أن جوهر الصلاة في تحقق الخشوع،ولا يتم ذلك إلا باستحضار الذهن وتيقظ القلب، ومتى غاب أحدهما فقدت الصلاة روحها والحكمة منها،لتصبح مجرد حركات لا تزيد المصلي إلا جفاء،قال ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا: \" من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا\"7
* محاسبة النفس:
قال تعالى ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) سورة الشمس الآية 10
فمن لم يزك نفسه ،ومكن الشيطان من خواطره ،كان كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله \" كصاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب،فأتاه شخص معه حمل تراب،وبعير وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته،فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه استمر على طحن ما ينفعه ،وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب،وخرج الطحين كله فاسدا\" 8
* تذكر دموع النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح :
إن العين شديدة التأثر بدموع الآخرين ،فإذا ما تعلق الأمر بسيد الخلق وصحبه ومن والاه،كان التأثر أشد وأبلغ ،لما يورثه هذا التذكر من الإحساس بالتقصير والحزن والأسى على فراق الحبيب ومن على دربهم نرجوا أن نسير
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا**كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجد**دليلا كفانا نور وجهك هاديا
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء)
وهذا الصديق رضي الله عنه كانت أدمعه لا تعرف قرارا إذا ما تلا القرآن ،لأنه يقرؤه بقلبه لا بلسانه فقط؛عن ابن عمر رضي الله عنهما قاللما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه وقيل له في الصلاة ؛قال:مروا أبابكر فليصل بالناس،فقالت عائشة رضي الله عنها : إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء)
ولم يقتصر هذا الأمر على الصدر الأول من الصحابة ولا على الرجال دون النساء ؛بل كان صفة لكل من أحسن صقل قلبه وأحب ربه وخاف عقابه ورجا رحمته؛فهذه حفصة بنت سيرين قيل لجاريتها :كيف رأيت مولاتك حفصة؟ قالت: \"إنها امرأة صالحة ،كأنها أذنبت ذنبا عظيما،فهي تبكي الليل كله وتصلي\"
* تذكر الموت :
إذا تذكرت أني في الدنيا غريبة ولنهايتها قريبة ،وأني لابد محاسبة على أي فعل اقترفته أو قول تكلمت به،لأجازى إما بجنات النعيم أو العذاب الأليم (أعاذني الله وإياكم منه) فلا شك أني سأعمل على إيقاظ قلبي من غفلته وأثير في العين دمعتها و الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت .قالت معاذة العدوية لإمرأة أرضعتها : يا بنية كوني من لقاء الله عز وجل على حذر ورجاء ،فإني رأيت الراجي له محقوقا بحسن الزلفى لديه يوم يلقاه،ورأيت الخائف له مؤملا للأمان يوم يقوم الناس لرب العالمين\"13
* اجتناب الرياء:
إن أفضل ساعة تدمع فيها العين من خشية الله ساعة الخلوة ،لأنها الساعة التي لا يشوبها رياء،وتخلص فيها النية لطلب رضى الله ،فلا تتطلع فيها النفس إلى نيل الثناء من العباد ،لذا كان خير دواء للرياء هو الخفاء،قال تعالى ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم سيئاتكم والله بما تعملون خبير)سورة البقرة الآية 271
يا رب وفقنا لإزالة الغشاوة عن قلوبنا و أعنا أن نجعل نصب أعيننا قولك سبحانك (ألم يان للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق،ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)سورة الحديد الآية16
فلو أن ما أسعى لعيش معجل ** كفاني ما أنا فيه
ولكنما أسعى لملك مخلد ** فوا أسفا إن لم أكن بملاقيه