دخل كـُـثير عزّة على عبدالملك بن مروان , فجعل ينشد شعرا في عزة وعيناه تذرفان .فقال له عبدالملك : قاتلك الله يا كثيرهل رأيت أحدا أعشق منك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ,خرجت مرة أسير في البادية علي بعير فبينما أنا أسيرإذ رفع لي شخص فأممته فإذا رجل قد نصب شركا للظبى وقعد بعيدا منه , فسلمت فرد علي
السلام . فقلت له : ما أجلسك هاهنا ؟ قال : نصبت شركا للظبى فأنا أرصده . قلت : إن أقمت لديك فصدت أطعمتني ؟ قال : إي والله . قال : فنزلت فعقلت ناقتي وجلست أحدثه , فإذا هوأحسن خلق الله حديثا وأرقّه وأجزله , قال : فما لبثنا أن وقعت ظبية في الشرك , فوثب ووثبت معه , فخلصها من الحبائل ثم نظر في وجهها مليّـا , ثم أطلقها . وأنشأ يقول
أيا شِـبه ليلى لن تراعي فإنني = لك اليوم من بين الوحوش صديقُ
ويا شبه ليلى لن تزالي بروضةٍ = عليك سحابٌ دائم وبروقُ
فما أنا إذ أشبهتها ثم لم تؤب = سليما عليها في الحياة شفيقُ
ففر فقد أطلقت عنك لحبها = فأنت لليلى ما حييت طليقُ
فعيناك عيناها وجيدك جيدها = ولكنّ عظم الساق منكِ دقيقُ
ثم أصلح شركه وعدنا إلى موضعنا . فقلت : والله لا أبرح حتى أعرف أمر هذا الرجل . فأقمنا باقي يومنا فلم يقع لنا شيء , فلما أمسينا قام إلى غار قريب من الموضع الذي كنا فيه وقمت معه فبتنا به . فلما أصبح غدا فنصب شركه , فلم نلبث أن وقعت ظبية شبيهة بأختها التي بالأمس , فوثب إليها ووثبت معه , فاستخرجها من الشرك ونظر في وجهها مليّـا ثم أطلقها فمرت . فأنشأ يقول :
اذهبي في كلاءة الرحمن ِ = أنت مني في ذمة وأمان ِ
لا ترهبي والجيد منك لليلى = والحشا والبـُغام والعينان ِ
لا تخافي بأن تُهاجي بسوء ٍ = ما تغنى الحمام في الأغصان ِ
البُغام : صوت الظبي
ثم عدنا إلى موضعنا فلم يقع يومنا ذلك شيء , فلما أمسينا سنا إلى الغار فبتنا فيه . فلما أصبحنا غدا إلى شركه وغدوت معه . فنصبه وقعد يتحدث , وقد شغلني
بحسن حديثه عن الجوع , فبينما نحن نتحدث إذ وقعت في الشرك ظبية فوثب إليها ووثبت معه . فاستخرجها من الشرك فنظر في وجهها وأراد أن يطلقها فقبضت على يده وقلت :ماذا تريد أن تعمل ؟ أقمت لديك ثلاثا كلما صدت شيئا أطلقته ! قال : فنظر في وجهي وعيناه تذرفان وأنشأ يقول :
أتلحي محبا هائم القلب إذ رأى = شبيها لمن يهواه في الحبل موثقا
فلما دنا منه تذكّر شجوهُ = وذكّره من قد نأى فتشوّقا
أتلحي : أتـلوم
فرحمته والله يا أمير المؤمنين فبكيت لبكائه , فنسبته فإذا هوقيس المجنون . فذلك والله أعشق مني يا أمير المؤمنين